طرائق تدريس اللغة
العربيّة في التّعليم العام
الواقع والطّموحات
د. منى عليّ السّاحلي
عضو هيأة تدريس بقسم اللغة العربية
وآدابها
جامعة بنغازي/ليبيا
1.
مقدّمة
لقد أضحى التّدريس
خبرات تعليميّة وتربويّة يعدّ لها المعلّم، ويشرف عليها ويديرها لمساعدة التّلاميذ
لتحقيق أهداف معينة. ويتضمّن ذلك كلّ ما يمكن أن يكتسبه التّلميذ من أوجه التعلّم
من هذه الخبرات من مفاهيم، أو اتّجاهات، أو غيرها. إنّ الموقف التدريسي– بصفة عامة – ينبغي أن
ينظر إليه على نحوٍ كلّي، بمجموع عناصره من معلّم وتلاميذ وأهداف مراد تحقيقها،
ومادّة دراسيّة، ووعاء زمني، وبيئة تدريسيّة، فضلاً عمّا يستخدمه المعلّم من طرائق
للتّدريس، ووسائل تعليمية. ولئن كان كلّ عنصر من هذه العناصر يمكن أن يدرس ويبحث
منفصلاً عن البقيّة، فإنّ نجاح أيّ موقفٍ تدريسيّ إنّما يكمن في نجاح هذه العناصر
متعاضدة ومتضافرة.1 من هنا، لا يمكن أن نضمن نجاح التّدريس، وتحقيق
أهدافه، إذا انصبّ التّركيز على جزء من عناصر العمليّة التّعليمية دون الآخر، أو
انحصر العمل للتّحديث والتّطوير على جانب دون الآخر، بل يجب الاهتمام بكلّ تلك
الجوانب، وعدم التّركيز على أحدها على حساب الآخر.
ولمّا كانت أكثر
الجهود التربوية السّابقة تهتمّ إمّا بالمنهج، أو بالمعلّم، أو بالتّلميذ، فإنّ
هذه الورقة ستركّز اهتمامها على الطّرائق وأساليب التّدريس، بما فيها الوسائل
التعليمية، لتُضَمّ إلى الجوانب الأخرى من العملية التعليمية، وليس بمعزل عنها.
بطبيعة الحال، لكي
تكون أساليب التّدريس فعّالة، لابدّ من أن يكون المعلّم ملمّاً بمادّته متمكّناً
من تفاصيلها ودقائقها، ناجحاً في تحفيز التّلاميذ وزيادة مستويات الدّافعية لديهم،
فيتحوّل بتلاميذه إلى نشاط إيجابي فاعل يزيده متعة وإثارة وتأثيراً ما يستعمله من
وسائل، وما يتّخذه من مداخل جيّدة لدروسه بطريقة تزيد من انجذاب التلاميذ وحماسهم
لاكتساب خبرات الدّراسة، ومن ثمّ تزيد من انتفاعهم بالدّرس وامتلاكهم للمهارات
التي يهدف إليها المنهج.
ف"لم يعد صمت
التّلاميذ وسكوتهم واستماعهم لشرح المعلّم معياراً لمدى كفاءته، ولم يعد المعلّم
ناقلاً للمعرفة، وإنّما أصبح مربيّاً مسؤولاً عن تربية التّلاميذ وتعديل سلوكهم في
الاتّجاه المرغوب فيه مما يعني اهتماما بمكوّنات الشّخصية الإنسانيّة..."2
غير أنّه في واقعنا
التّعليمي نجد أنّ كثيراً من المعلّمين "قلّما يفكّرون بعناية في التّجهيزات
المطلوبة للدّرس، بل غالباً ما يترك ذلك للظّروف، والتي غالباً ما لا تكون في صالح
المعلّم والتّلاميذ ممّا يؤدّي في أغلب الأحوال إلى قصور في عمليّة التّدريس،
الأمر الذي ينعكس بوضوح على نمط التّفاعل السّائد في التّدريس وعائده."3
2.
أزمة تدريس اللغة
العربيّة
يشهد تدريس مادّة
اللغة العربية في ليبيا- ولعلّه كذلك في سائر الأقطار العربيّة- أزمة حقيقيّة
يعرفها من يزاول هذه المهنة في كلّ مراحل التّعليم بنوعيه العام والعالي، وتبرز
مظاهرها ونتائجها جليّة في مستوى التّلاميذ، ليس في هذه المادّة فحسب، إنّما في
غيرها من التّخصصات والموادّ العلميّة والأدبيّة الأخرى.
من هنا تكمن
الخطورة، حيث إنّ اللغة العربيّة ليست مادّة كأيٍّ من الموادّ الدّراسيّة الأخرى؛
فهي تكوّن حصيلة ثقافة التلميذ، بل زاده اللغويّ، ومهارات الفهم والتّفكير
والتّعبير والكتابة والقراءة والاستماع. وكلّها أمور لا نختلف حول أهميّتها في
بناء التّلميذ - والإنسان العربي أصلاً - أيّاً ما كان تخصّصه، ومستوى تحصيله، أو
المرحلة التي يدرس بها.
إنّ مقرّرات مادة
اللغة العربية، ودروسها، وطرائق تدريسها، والأساليب المتّبعة لابدّ أن تصمّم وتتّخذ
لتراعي تحقيق الأهداف التّربويّة والتّعليميّة المنوطة بها. وأبسط تلك الأهداف
المنطقيّة التي تكمن من وراء تدريس اللغة العربيّة وأكثرها بدهيّة، هي أن يتمكّن
التّلميذ – في نهاية تلك الدّروس – من القراءة الصّحيحة القويمة باللغة العربيّة،
وأن يفهم ما يقرأ من نصوص متفاوتة المستوى – حسب مراحل الدّراسة المختلفة – فهماً
جيدّاً مستوعباً تفاصيلها وجزئيّاتها، مع قدرته على التّحليل والتّركيب، والمناقشة
والاستنتاج والاستنباط، والتّقويم والنّقد لكلّ ما يقرأه ويسمعه من عبارات ونصوص.
ولا يخفى أن هذه (الكفاية اللغويّة) لا تمثّل ترفاً علميّاً، ولا نشاطاً إضافيّاً
قد ينمّى كهواية، أو يربّى كما تربّى المواهب والميول لدى التّلاميذ، بل هي جوهر
أساس للنّضج الفكري، والنّمو العقلي لمصاحبته لعمليّة التّفكير ذاتها، ولأهميّتها
في تكوين هُويّة المرء وثقافته وانتمائه.
من هنا، لا تقف
أهميّة اللغة العربيّة عند منهجها ومفردات المقرّر ووحداته الدّراسيّة، بل تكمن
أهميّتها في أنّها تصنع بنية ثقافة التّلميذ، وتنسج أفكاره ومشاعره ومواقفه في
صياغة مادّيّة يمكن الإفصاح والنّطق بها، والإبانة عنها في ألفاظ متماسكة تصل
بالفكرة والشّعور إلى الآخر.
3.
المشاكل وأسباب
القصور
لكنّنا إذا ما عدنا
إلى مناهجنا وممارساتنا لتدريس هذه المادة، ينهض السّؤال المشروع: هل ما نفعله
بمزاولة هذه المهنة يحقّق تلك الغايات؟ أيخرج التّلميذ في نهاية مشواره الدّراسي
قادراً على الحديث الصّحيح، والكتابة القويمة، بل الفهم السّليم لما يسمع ويقرأ،
والقدرة على التّحليل والمناقشة ؟! إنّ نظرة سريعة إلى ما يتمّ داخل حجرات
الدّرس، وإلى مستوى التّلاميذ آخر العام (بما فيهم من اجتاز مقرّر اللغة العربية
بنجاح) يمكن أنّ تبيّن بسهولة أن تلك الأمور لا تدرك على النّحو المرغوب، وأنّ
العمليّة التّعليمية لم تحقّق- للأسف الشّديد– الأهداف المرجوّة منها. والسّبب، أو
الأسباب الكامنة وراء هذا (الفشل، أو التّدنّي، أو التّعثّر) كثيرة ومعقّدة، لكن
يمكن أن نشير هنا إلى أهمّ هذه الأسباب التي نعتقد أنّها المسؤولة بشكل أساسي عن
هذا الواقع المأزوم الذي نراه للغة العربيّة على ألسنة النّاطقين بها، وتحت أقلام
كتّابها أدباء كانوا أم غير أدباء، وبعضها قد يرتبط بالآخر ارتباطاً وثيقاً:
1.
إنّ المناهج والخطط
الدراسيّة، والظّروف المصاحبة للعمليّة التعليمية من استرتيجيات تدريس، وأساليب
وبيئة تعليميّة لاتخدم – في الغالب- تلك الأهداف، ولا تراعيها، بل لعلّه ليس من
قبيل المبالغة أن نزعم غياب تلك الأهداف أصلاً، أو في أحسن الأحوال عدم وضوحها في
أذهان كثير من المعلّمين القائمين على هذه المهنة.
2.
إنّ طريقة التّدريس
المتّبعة– وهي في الغالب- طريقة المحاضرة والإلقاء التي تقوم على تلقين التّلاميذ
للمعلومات، وفيها يكون المعلّم هو الصّوت الغالب في الدّرس، إن لم يكن الوحيد.
ولعلّنا لسنا في حاجة إلى التّذكير بعيوب هذه الطّريقة، خصوصاً إذا كانت هي النّمط
السّائد في قاعات الدّرس، فهي- بالرّغم ممّا لها من مزايا- تحدُّ من نشاط التّلميذ
ومن فاعليته،4 وتجعل منه حاضراً غائباً داخل الفصل. ومن ثمّ، فهي ترسّخ
لصورة نمطيّة للمعلّم التّقليدي الذي يحتكر السّلطة داخل الفصل، ويملي على تلاميذه
ما يمتلكه من حقائق ومبادئ في دروسه، ويصعب عليه– بوسائله التّقليديّة– أن يحافظ
على انتباههم، وحضور أذهانهم طيلة وقت الدّرس. فتصير دروس اللغة العربية– تبعاً
لذلك- مملّة وثقيلة وروتينية لا تشدّ التّلاميذ، ولا تحفّزهم على الانتفاع بما
يقدّم من معلومات، ولا تزيد من دافعيتهم للتّعلّم وتحقيق أهدافه. إنّ هذه الطّريقة–
أي طريقة الإلقاء والمحاضرة– قد تصلح في بعض الدّروس حيث توفّر الوقت على المعلّم
في إعطاء كثير من المعلومات للتلاميذ في زمن قليل دون أن يكلّفهم بالبحث عن
المادّة العلميّة المتّصلة بموضوع الدّرس،5 لكنّها في دروس اللغة بالذّات– أيّاً ما كانت
هذه اللغة– قليلة النّفع، لأنّ تدريس اللغة يقوم أساساً على التّطبيق المستمرّ،
فضلاً عن تنوّع المهارات التي ينبغي للتّلميذ أن يكتسبها، ولذلك يحتاج المعلّم إلى
متابعة تلاميذه، والتّأكّد من استيعابهم لقواعد اللغة ومهاراتها أوّلاً بأوّل،
ليستطيع الانتقال من مستوى إلى آخر.
إنّ واقع تدريس
اللغة العربيّة يركّز على تلقين التّلاميذ المعلومات، أكثر من تركيزه على استفادة
التّلاميذ منها. فقواعد النّحو- على سبيل المثال- وأكثرنا يعلم نفور التّلاميذ
والنّاس عموماً منها، يجري الاهتمام بتلقينها، واستظهارها بصورة روتينيّة جامدة،
أكثر من الاهتمام بتطبيقها ومراعاتها كتابةً ونطقاً، حتّى أننا قد نجد كثيراً من
التّلاميذ يحفظون ما يقرّر عليهم من قواعد كاملة بشواهدها ونصوصها، فإذا ما كتبوا
أو قرأوا افتقرت قراءتهم وكتابتهم للصحّة والسّلامة اللغوية، لدرجة لا تدلّ على
علمهم بتلك القواعد التي يحفظونها، ولا يفيدون منها ضبطاً وصياغة وتركيباً، فيصدق
عليهم قول القائل:
كالعيسِ في
البيداءِ يقتلُها الظّما والماءُ فوقَ
ظهورِها محمولُ
3.
قلّة العناية
بالجانب التّطبيقي، في كلّ فروع اللّغة العربيّة، سواء في النّحو، أم في الإملاء،
أم في الصّياغة والأسلوب، وهي أمور أثر التّدريب فيها كبير، فضلاً عن إهمال حصص
التّعبير، وهو من "أهمّ فروع اللغة العربيّة"،6 فكثيراً ما
يجري استغلالها في تغطية فروع المنهج الأخرى، وفي أحسن الأحوال، لا يهتمّ فيها
بتنمية قدرات التّلميذ على صياغة أفكاره، ومشاعره، أو تكوين مواقف تجاه القضايا
والأفكار والموضوعات المختلفة، فيصوغها في جمل واضحة وسليمة. إنّ إهمال مثل هذه
الدّروس، وتلك التّطبيقات داخل حجرات الفصل، والتّقصير في مراجعة ما يكتب
التّلاميذ من واجبات منزلية، وإهمال تزويدهم بالتّغذية الرّاجعة، ساهمت بدرجة
كبيرة في انخفاض مستوى التّحصيل، وفي انصراف التّلاميذ عن الاهتمام بأداء
التّطبيقات والواجبات، بل قلّل أيضاً من جدواها مادامت لا تتمّ بإشراف المعلّم
وتصحيحه ومراجعته. وكلّ ذلك يؤثّر- بلا شكّ- في الكفاية اللغويّة للأفراد، وفي
أدائهم اللغوي على حدّ سواء.
4. ابتعاد دروس اللغة العربية- في مجملها- عن
الارتباط بالواقع، ولمس قضايا المجتمع، وما يثير اهتمام التّلاميذ، ويقترب من مشكلاتهم
اليوميّة، بل تغلب على دروسها النّصوص البعيدة عن العصر، أو ذات الموضوعات
المكرورة، والعبارات العامّة التي تبتعد عن واقع الحياة التي يعيشها الطّلاب، ومن
ثمّ تبعث السّأم في نفوسهم.
5.
وجود الأعداد
الكبيرة التي تملأ الفصول الدّراسيّة تجعل متابعة كلّ تلميذ في أدائه اللغوي
وتطبيقاته، ومراجعة ما يقوم به من واجبات منزلية، وتقديم التّغذية الرّاجعة مسألة
في غاية الصّعوبة، ولاسيّما إذا علمنا أن المعلّم لا يضطلع بعبء فصل واحد، بل عادة
ما ينوء بعبء عدّة فصول! فإذا ذكرنا أنّ اللغة العربيّة لها فروع عديدة، وكلّ فرع
يمثّل مادّة مستقلّة، ويتطلب جهداً كبيراً، تصبح المسألة مضنية، فكيف إذا أضاف
المعلّم إلى عمله داخل المدرسة، جهوده في مدارس أخرى من أعمال إضافيّة، ودورات
تقوية يضطرّ لها المعلّم لتحسين دخله البائس، ممّا يؤثّر في مستوى عطائه، وإبداعه
في مهنته التي تتحوّل عندئذ إلى محنة يعمّ بؤسها وشقاؤها كلّ المجتمع، وتنعكس على
نفوس أفراده ومعنويّاتهم، ونمط تفكيرهم.
4.
التوصيات وآفاق
التّغيير
إنّ تدريس اللغة
ينبغي أن يراعي أن يكتسب التّلاميذ المهارات اللغوية، لا أن يستظهروا معلومات
وقواعد ونصوص لا ينتفعون بها. وهذا لا يتأتّى إلا إذا غيّرنا من طرائق تدريسها،
مستعملين تقنيات حديثة تجذب التّلاميذ، وتزيد من دافعيّتهم وتثير اهتمامهم
بالمادّة، بدلاً من اللجوء إلى أساليبَ غيرِ تربوية لإرغامهم على التّحصيل، مثل:
التّهديد بالعقاب الماديّ أو المعنويّ (كالطّرد، أو استدعاء وليّ الأمر، أو خصم
درجات أعمال السّنة...الخ). إن مثل تلك الأساليب قد تفلح في حمل التّلاميذ على
الانتباه والانضباط، وحتّى الحفظ، لكنّها لا تستطيع أن ترغمهم على حبّ المادّة،
والتّفاعل معها، واكتساب مهاراتها.
إنّ أهم ما يجب
التّفكير فيه سواء في وضع المناهج، أو في اختيار طرائق التّدريس وأساليبه، ووضع
خطط دراسيّة لتدريس اللغة العربيّة هو أن يراعى تحقيق الأهداف التربويّة التي تسعى
إليها عمليّة تدريس اللغة العربيّة أصلاً، بالتّركيز على اكتساب التّلاميذ
للمهارات اللغويّة المختلفة من مهارات القراءة، والفهم، الكتابة...وغيرها. وهي أمور
تقتضي تغييراً جذريّاً في منظومة التّعليم بحيث تتآزر كلُّ عناصرها لتحقيق مثل هذه
الأهداف. ومن مناحي هذا التّغيير ما يأتي:
1.
خفض عدد التلاميذ
داخل الفصل الواحد. فلكي يتمكّن المعلّم من متابعة تلاميذه والتّصحيح لهم،
والإشراف على تطبيقاتهم للغة واستعمالاتهم لها داخل سياقات مختلفة، ينبغي أن يكون
عدد التّلاميذ محدوداً بحيث يسهّل على المعلّم الاهتمام بهم بطريقة متساوية عادلة،
ويستطيع أن يوفّر لهم التّغذية الرّاجعة التي لا غنى عنها في التّعليم الحديث.
بالإضافة إلى تمكن المعلّم من تقسيم التّلاميذ إلى مجموعات صغيرة للعمل الجماعي،
والنّقاش والحوار، حتى يعوّدهم على مهارات التّعليم التّفاعلي بما فيه من تطوير
مهارات الاستماع، والحديث، والتّفكير
النّاقد، والحوار المثمر الإيجابي، ومن ثمّ، يتحوّل بالدّرس إلى مجموعة من المناشط
الحيويّة الفاعلة التي تجعل من الدّرس أكثر فعالية وحركة.
2.
استخدام الوسائل
التّعليميّة المختلفة، والإفادة من التّقنيات الحديثة7 وتوظيفها في
تدريس اللغة، على نحو ما هو معمول به في الدّول المتقدّمة، من قبيل استخدام
التّسجيلات المسموعة والمرئيّة، بأنواعها من شاشات سينما، وفيديو، وحاسوب، فضلاً
عن استخدام شبكة المعلومات الإلكترونية (الإنترنت)، والاستعانة بالمسرح،
والمجسّمات التّوضيحية، والألعاب الذهنيّة، وغيرها من الأمور التي من شأنها أن تضفي
على دروس اللّغة متعة وإثارة، وتدفع بالتّلاميذ إلى الإقبال على التّعلم بروح
جديدة أكثر حماسة وفاعلية. ويمكن للمعلّم أن يبدع في استخدام مثل تلك الوسائل
والتّقنيات، وأن ينوّع فيها بالقدر الذي يخدم درسه، ويتيح له أن يعمل على أكثر من
مهارة في الوقت الواحد، كأن يعرض لهم– على سبيل المثال– مشهداً تمثيليّاً، أو
جانباً من حوار ثقافي، أو سياسي، أو اجتماعي، ويطلب منهم أن يلخّصوا أهمّ ما جاء
فيه، ثم يناقشوا الأدلّة التي تقوم عليها الآراء، ثم يبدوا آراءهم الشّخصيّة في
ذلك، كلّ ذلك يتمّ بدقّة وانضباط، وهو أمر بلا شكّ يحتاج من المعلم إلى خبرة
وإتقان8 حتّى لا يتحوّل الدّرس إلى فوضى تضيع الوقت، وتفوت الفائدة
منه، وهي إحدى محاذر هذه الطّريقة. لكن في المقابل، يظلّ استعمال الوسائل
المختلفة، والتّقنيات المتطوّرة أمراً مهمّاً في جذب انتباه التّلاميذ، وتنمية
مهاراتهم بسرعة، كما أنّها تجعلهم يشاركون– تحت إشراف المعلّم– في العملية
التّعليمية بطريقة إيجابيّة تبعدهم عن الشّعور بالسّأم، كما تساعدهم في التّعرف
على جوانب القوّة، وجوانب الضّعف لديهم والعمل على علاجها.
3.
ضرورة أن يتّخذ
المعلّم أمثلته، وموضوعاته من القضايا اليوميّة المعاصرة، والشّؤون المحيطة بالتّلاميذ،
لتكون وثيقة الصّلة بحياتهم ومجتمعهم وبيئتهم، فإنّ ذلك يتيح لهم التّعرّف على
قضايا المجتمع المختلفة داخليّاً وخارجيّاً، ويربطهم بواقعهم، فيكسب الدّرس حيويّة
وأهميّة لديهم، كما يزيدهم إقبالاً عليه ومشاركة فيه، ومن ثمّ يتحسّن مستواهم
العلمي والثقافي والسّلوكي كذلك.
4.
تشجيع التّلاميذ
على القراءة، وخصوصاً في المراحل المبكّرة من التّعليم، وتقوية صلتهم بالكتاب،
وتنمية مهارة القراءة والبحث لديهم، وغرس حبّ الاطّلاع في نفوسهم. وهذا يتمّ من
خلال تخصيص وقت للمكتبة، وهو أمر اعتدنا على وجوده في الجدول المدرسي، لكن– للأسف–
لم تكن تؤخذ حصص المكتبة بجدّيّة، وكثيراً ما كانت تلغى، أو تستغلّ في دروس أخرى.
لذلك لابدّ من عودتها بفعالية، فيمكَّن التلاميذ من الحصول على الكتب، ويعوّدوا
على الذّهاب إلى المكتبة المدرسية، للاطّلاع على الكتب المتنوّعة، وإعداد تقارير
بأسلوبهم عمّا قرأوه، ويكلّفوا بتلخيص مقالات، ومناقشتهم فيها. بالإضافة إلى
استغلال الإنترنت في البحث عن المعلومات المتعلّقة بما يثار في الدّرس. يضاف إلى
ذلك التّعاون مع الأسر على تشجيع أبنائهم على القراءة، واقتناء الكتب، وتكوين
مكتبة داخل البيت. ويمكن أن يجري تحفيزهم على القراءة من خلال إقامة مسابقات
ثقافية، ومعارض للكتاب، وتقديم جوائز تشجيعيّة، وحوافز مادّيّة ومعنويّة.
5.
ومن خلال التّثقيف
والقراءة والنّقاش، يتمّ تنمية مهارة الكتابة، بحثّ التلاميذ على الانتفاع
بقراءاتهم المتنوّعة في كتابات إبداعيّة مثل كتابة خواطر، وقصص قصيرة، ومقالات،
ويمكن تشجيعهم على ذلك من خلال كتابة صحف حائطيّة، وإقامة مهرجانات ومعارض
ومسابقات بين الفصول، والمدارس المختلفة.
الخاتمة
إنّ هذه الورقة إذ
تعرض مشكلة تدريس اللغة العربيّة في بلادنا، لا تزعم استقصاء وافياً لأبعادها، ولا
هي تقدّم حلّاً نهائيّاً لها، وليس لأحد أن يزعم ذلك فهو عمل مؤسّسات، وليس عمل
فرد أو حتّى لجنة منفردة. لكن ما سبق تقديمه هو - بالدّرجة الأولى - بثّ لمواجع
هذه المهنة، ومحاولة للتّنبيه على الجراح المفتوحة التي أخذت تتفاقم بشكل مخيف،
وليس من قبيل التّلذذ الماسوشي بالألم، فالحديث، مؤلم وذو شجون لكنّ التّغاضي عنه،
أو الاستمرار في الممارسة الخاطئة، أوالعلاج غير الحكيم من شأنه أن يزيد الأمر
فداحة وسوءاً، ويصل بالأزمة – لا سمح الله - إلى طريق مسدود، تكون اللغة العربية
الضّحيّة فيه، ويكون كلٌّ من التّلميذ والمعلّم قد خسر وقته وجهده. من هنا انطلقت
هذه الورقة من ملاحظة تدنّي مستوى التّحصيل العلمي لدى التّلاميذ في كافّة مراحل
التّعليم في ليبيا، فبيّنت أن مفتاح النّهوض به يكمن بصورة مباشرة في النّهوض
أولاً بمستوى تدريس اللغة العربية؛ ليتمكّن التّلاميذ من اكتساب المهارات اللازمة
للتّحصيل والبحث العلمي من قراءة وكتابة وفهم ومناقشة وحوار...وغيرها.
وقد عرضت الورقة
بإيجاز لأهمّ مواطن الضّعف في عمليّة تدريس اللغة العربيّة من عدم وضوح الأهداف
التّربويّة من وراء تدريس مادّة اللغة العربية، وهي أن يتمكن التلاميذ من القراءة
والكتابة والتّعبير عن أفكارهم ومشاعرهم بصورة سليمة صحيحة، تلك الأهداف التي
ينبغي للمناهج والخطط الدّراسيّة، والظّروف المصاحبة للعمليّة التعليمية من
إسترتيجيات تدريس، وأساليب وبيئة تعليميّة أن تسعى إلى تحقيقها، لكنّها – في
الغالب – غير واضحة لدى كثير من المعلّمين، ليصير استظهار النّصوص، وحفظها هو
الهدف الذي يسعى المعلّم لتحقيقه. وهي أمور لاتخدم تلك الأهداف أساساً، ولا
تراعيها؛ لأنّ من خلال التّجربة العمليّة تبين أن التّطبيق، وهو المحكّ الفعلي
لمستوى التلاميذ، كثيراً ما يختلف عمّا ينجزونه من محفوظات تساعدهم على كسب رضى
المعلّم ودرجاته.
كذلك فإنّ اعتماد
المعلّم الأساس على طريقة الإلقاء التي تبثّ السّأم في نفوس التّلاميذ، وتحدّ من
فاعليّتهم، يعدّ مسؤولاً عن عدم اهتمام التّلاميذ بدروس العربية، وتدنّي مستوى
تحصيلهم فيها، خصوصاً أنّ المعلّم – في الغالب لا يستعمل من وسائل تعليمية سوى
الوسيلة العتيدة وهي الطّباشير والسّبورة، وإن استحدثت فابيضّ لونها، واستعمل معها
قلم الحبر الملّون، لكن الأمثلة وطريقة التّدريس تبقى تقليديّة ترسخ لصورة نمطيّة
لمعلم اللغة العربية الذي يبدو كأنّه قد خرج بعباءته من بطون الكتب القديمة. إن
قراءة كتب التّراث والاستعانة بنصوص من تراثنا العريق أمر مطلوب، بل واجب في تدريس
اللغة العربية، لكن ينبغي كذلك ألا تنقطع صلة التّلاميذ بعصرهم ومشكلاته وقضاياه،
لأنّ ذلك سيزيد من عزلة دروس العربية، ويزيد من نفور التّلاميذ منها.
كلّ ذلك قد يوحي
بأنّ المعلّم المسؤول الأكبر عن هذه المشكلة، وهذا غير صحيح- مع الاعتراف بحاجة
المعّلم إلى دورات تدريبيّة وتنشيطية في مهارات التّدريس الفعّال، وإدارة الصّف..
وغيرها- لكنّ كثرة عدد التّلاميذ، واكتظاظ حجرة الفصل بهم من شأنه أن يرهق
المعلّم، ويعوّق جهوده للارتقاء بمستواهم، ومتابعتهم بصورة مستمرّة ودقيقة، فضلاً
عن أنّه يخالف ما تقتضيه طبيعة تدريس اللغة عموماً، بالإضافة إلى أنّ ذلك يلزم
المعلم بأن يستمر بطريقة الإلقاء، لأنّ تطبيق طريقة أخرى مثل طريقة حلّ مشكلات، أو
طريقة الحوار يتعذّر استخدامها مع أعداد كبيرة من التّلاميذ. كذلك فإنّ توفير
الوسائل التعليميّة الحديثة أمر ينبغي أن تتكفّل به الدّولة بتزويد المدارس كافّة بالأجهزة
الحديثة، ووسائل الاتّصال، ومدّ خطوط لشبكة المعلومات العالمية، فضلاً عن مسؤوليّة
إدارة المدرسة في تجهيز مكتبة علميّة داخل المدرسة تراعي مستويات التلاميذ، وتسهّل
لهم سبل الاطّلاع والاستعارة، ليتمكّنوا من أداء ما يكلّفهم به المعلّم من مناشط،
وواجبات، ومساعدة المعلّم في تنظيم المهرجانات الثّقافية، والمسابقات العلمية،
وتوفير حوافز تشجيعية للفائزين. كلّ ذلك يتمّ بالتّعاون مع أسر التّلاميذ للعمل
معاً من أجل النّهوض بمستوى التّعليم، وتحقيق أهدافه.
من هنا، نتبيّن أنّ
الغاية نبيلة وكبيرة، وعمليّة التّدريس ليست بالشّيء الهيّن، والطّريق طويل يحتاج
إلى تضافر الجهود الصّادقة والمخلصة من المربّين والمعلّمين والمشرفين التّربويين
والأساتذة أصحاب العلم والخبرة، للارتقاء بمستوى التّدريس في بلادنا، بدعم من
الجهات المعنيّة بالتّعليم والتّربية لتؤتي هذه الجهود أكلها، وعندئذ يمكن أن
تنتهي أزمة التّعليم ليس فقط على مستواه العام، بل العالي أيضاً، لأن معاناته تكاد
تكون نفسها.
الهوامش
1. ينظر أحمد حسين
اللقاني، وفارعة حسن محمد، التدريس الفعال، عالم الكتب، القاهرة، ط3 1995،
ص 11.
2. السّابق، ص 13.
3.
السّابق، ص 19.
4.
ينظر عبد الله
الأمين النعمي، طرق التدريس العامة، الدّار الجماهيرية للنشر والتوزيع
والإعلان، مصراتة، 1993، ص ص 98، 9.
5.
ينظر فكري حسن
زيدان، التّدريس: أهدافه، أسسه، أساليبه، تقويم نتائجه وتطبيقاته، عالم
الكتب، القاهرة، 1993، ص 210.
6.
سعاد عبد الكريم
الوائلي، طرائق تدريس الأدب والبلاغة والتعبير بين التنظير والتطبيق، دار
الشروق، عمان، 2004، ص 77.
7.
ينظر كمال يوسف
إسكندر، ومحمد ذبيان غزاوي، مقدّمة في التكنولوجيا التّعليميّة، مكتبة
الفلاح للنشر والتوزيع، الكويت، 1994،
ص64، وما بعدها.
8.
وهذا يعدّ من
معوّقات استخدام هذه الوسائل. ينظر المرجع السابق، ص 102.