الجمعة، يوليو 06، 2012

التّعويض الحقيقي!

كثر الخوض في حديث التّعويضات بين مؤيّد ومعارض، وتوالت ردود الأفعال، وتفرّعت المسائل، وحمي النّقاش، وارتفعت الأصوات.. هذا يردّ على هذا، وذاك يقدح في ذاك ويتّهمه بالحسد والحقد ...إلى غيرها من التّهم والأوصاف. والمسألة أعمق من هذا الهرج والمرج والعراك والقذف والمزايدات.
لا أريد أن أتمادى في الظن، ولا أن أسيئه بمن أثار هذه الزوبعة في الفنجان؛ لأقول إنّها كانت مقصودة لذاتها لإلهاء الناس بعضهم في بعض، وصرفهم عن متابعة أداء المسؤولين ومحاسبتهم، أو عن مناقشة المستجد والخطير من أمورهم بما في ذلك التلكؤ في محاكمة السيف القذافي الذي تتصرّم الأيام ولا نسمع إلا ما يوجع القلب من أمر التهاون في المحاكمة، وذلك يزيد من مطالب المحكمة الجنائية الدّولية في تسليمه بما يعدّ تقصيراً شنيعا من المجلس الانتقالي والنيابة العامة، وتفريطاً في حقوق الليبيين لن يسامحهم القضاء الليبي الحقيقي عليه، طال الزمان به ليرى النور أم قصر!
لنتفق أوّلاً على أن الشّرفاء الذين ناضلوا سواء بالقول أو بالفعل كانوا يدركون أنّهم يغامرون براحتهم، ويعرّضون أنفسهم وأسرهم للخطر في عهد طاغية لا يراعي حرمة لدين الله، ولا لحقوق إنسان، ولا لأعراف اجتماعية أو دولية، فكيف يراعي في من يراهم (كلاباً ضالّة، كما في ألفاظه الأولى، أو جرذاناً كما في معجمه الأخير!) أيّ حرمة، أو حقّ، أو كرامة؟!! بل إن مواقفهم ساعة الفتك والبطش والقبضة الحديديّة لتتضاءل أمامها كلّ البطولات والعنتريّات حين الرّخاء والأمن والطمأنينة. وهم- مع ذلك- ما كانوا ينتظرون تكريماً أو تشريفاً أو جزاءً أو شكورا، بل كانت مواقفهم من أجل نصرة الحق، والدّين والوطن تحقيقاً لإنسانيتهم ومبادئهم..فهل يتسوّلون الآن تشريفاً أو تكريماً، أم يطالبون ثمناً لمعاناتهم وآلامهم؟!
ولنتّفق ثانياً أنّ ما قدّم هؤلاء الشرفاء، وما وقع عليهم من ظلم وعسف، وما ضاع من أعمارهم- أكثرهم قضى زهرة شبابه في غيابات السجون المعتمة- وأعمار أبنائهم وأسرهم في شقاء وظلام وقهر وعذاب لا تعوّضه كنوز الدنيا مهما عظمت، إنها مجتمعة لا يمكن أن تعوّض يوماً واحداً من أيّام السجن الحالكة، وبؤسه المهين! أيّة كنوز تلك التي قد تكون بديلاً عن كرامة الإنسان وأمنه واستقراره؟! إنّ كلّ ما يمكن أن يقدّم من حطام الدّنيا ثمناً لأعوام البؤس والقهر والتّشرّد والحرمان من الأهل والأبناء والأمن والحرّية لا يساوي شيئاً مهما عظم!!
ومع ذلك، فهذا لا يعني أن يعيشوا في معاناة أخرى وحرمان جديد، وكثير منهم قد فاته حتى مدّة السعي من أجل الكسب الحلال (وتكوين النفس)، فهل من العدل أن يترك ليواجه مصيره، أو يبدأ حياته من جديد، وشمس حياته آخذة في الأفول؟!! أليس من حقّ المظلومين الإنصاف؟ أليس من حقّهم أن يُمتّعوا بحاضرهم ومستقبلهم لينسوا فجائع الماضي ومنغّصاته وآلامه؟! هل إذا خرج السجين المظلوم محطّماً، وقد أفنى زهرة عمره خلف القضبان، هل عليه أن يبدأ سعيه في الحياة من جديد بلا عون ولا مساندة أو تشجيع يأخذ بيده ويشدّ من أزره؟!!
لكن من ناحية أخرى، هل كلّ ما يحتاجه أولئك السجناء بل الليبيون- في الوقت الحالي- هو مجرّد أموال توضع في أيديهم، أو تودع في حساباتهم؟! وأين سينفقونها؟؟ أيشترون سيارات (خردة كالتي تعجّ بها شوارعنا وأسواقنا) لتعطب في منعطفات طرقاتنا، ووهادها؟ أم تقضي بحياة الأبرياء في حوادث السير الشّنيعة؟! وهل يذهبون إلى مستشفيات تفتقر لمقومات العلاج، وإلى صيدليات لشراء أدوية منتهية الصلاحية، وبدائلها التي لا تجدي فتيلاً؟! أم يشترون عقارات وأراضٍ من مالكين مازال مشكوكاً في ملكيتهم القانونية لها، غير متأكدين أنها ليست مصادرة أو مسلوبة من أصحابها الحقيقيين ظلما وبهتاناً بشرعة الغاب التي نصّ عليها الكتاب الأخضر؟!!
لذلك كلّه، أقول إن مسألة التّعويض مسألة حقوق لا نجادل في استحقاقها ووجوبها، لكنها ككل المسائل القانونية لا تتمّ جزافاً، ولا تقدّم على سبيل المنّ والتفضل الاستعلائي بهذه الطريقة الفوضوية المقيتة والمهينة الدالة- في أحسن التّأويلات- على الجهل والتّخبّط وسوء الإدارة! والأشدّ إيلاماً ممّا ذكرت هو دلالتها على أنّ العقلية المتنفّذة في أمور بلادنا ما تزال-بكلّ أسف- عقليّة قذّافيّة إذا صحّ أن ينسب شيء من العقل لكلّ من المشبّه والمشبه به على حدّ سواء! المأساة أن استرضاء الآخرين بالمال على نحو من (التّطميع) أو (الإسكات)، أو كسب الولاء هي وسيلة رخيصة بالرّغم من ثمنها الباهظ. بل أكاد أجزم أن هذا الأمر هو الذي أفسد ذمم الناس في السابق، وبالتالي أفسد حياتهم- المشترك منهم في المهزلة أو المستعصم منها- في التحوّل باهتمامات الناس، بدلاً من السعي لبناء الدولة، إلى جني المال المجّاني-دون عمل مستحقّ- بل دون أهليّة! والأدهى من ذلك هو فتح باب الفساد على مصراعيه ليتنافس الناس على جمع المال بطريقة سهلة وسريعة، بدلاً من التنافس الشريف في ميدان العمل والبناء الإيجابي! فالتعويض الحقيقي لشعبنا المقهور، ولبلادنا المنكوبة.. أن تبنى مرافق حقيقية خليقة ببشر آدميين، أن تشيّد الجسور الآمنة المتينة (وليست الآيلة للسقوط).. أن تقام المؤسسات الحقيقية للدولة بشكل لائق حضاري..أن تزوّد المستشفيات بأطقم وأدوات توفر الخدمات اللائقة بالمواطن، بدلا من امتهان كرامته واستنزاف ماله وتكليفه عناء السفر إلى دول الجوار لشراء المعاملة الكريمة قبل العلاج! أن نجد مدارسنا وجامعاتنا تخرّج أجيالاً يُعتمد على كفاءتهم وشخصيتهم ووطنيتهم في خدمة بلادهم..أن تجد الأسر والأطفال الليبيون متنزهات ووسائل ترفيه آمنة وجيدة تكون متنفساً لهم، بدلا من استنشاق الروائح الكريهة ورؤية القاذورات والمناظر المحزنة!.. هذا هو التعويض الحقيقي الذي يسرّ الليبيين جميعاً ويؤمنون إذا رأوه أنّ جهودهم في الثورة وما بذلوه من تضحيات قد جاءت بثمارها وحققت أهدافها، ولم تضع هباء! وعندئذ توضع الأمور في نصابها، ويأخذ أصحاب المظالم من السجناء السياسيين وغيرهم، حقوقهم وتعويضاتهم التي ينصّ عليها القضاء دون حيف أو منّ أو امتهان!!
منى عليّ السّاحلي

الثلاثاء، أبريل 17، 2012

احتفاليّة



احتفاليّة
د. منى علي السّاحلي

لقد حضرت في الأيام القليلة الماضية احتفالية بمناسبة مرور مائة عام على ولادة الشّاعر الليبي إبراهيم الأسطى عمرأقامتها مشكورة دار الكتب الوطنيّة (مكتبة الصّادق النّيهوم). في الواقع إن الذكرى المئوية لولادة هذا الشاعر كانت العام الماضي 2008 لأنه ولد عام 1908، لكن في عنوان الاحتفال ورد التاريخ هكذا (1908-2008) متجاهلاً أنها أقيمت في عام 2009 ، وهذا يعني أحد تفسيرين: إمّا أن تكون فكرة هذه الاحتفاليّة قد ظهرت العام الماضي (2008)، ولم يتسنّ تطبيقها - بسبب عادتنا في التسويف- في العام نفسه حتى يصدق وصفها ب(المئوية)، وإمّا أننا مازلنا نعيش في العام (الماضي) ولا نعترف بالعام 2009  حتى يثبت نفسه بانقضائه! وعند ذلك (س)نحاول استدراك الأحداث التي حملها معه ، ونحيي ما فاتنا من ذكريات!
أيّاً ما كان الأمر ففي نهايته أننا احتفلنا وهذا ما يهمّنا، وقد ازدان الحفل بتشريف حضور كريم من أرجاء مختلفة من ليبيا؛ احتفاء بالأديب الرّاحل. إن الاحتفاء بالمبدعين والفنانين والأدباء الراحلين لدليل على حياة الأمّة، فلا خير في أمّة تنكر تاريخها، أو تبرأ من أبنائها، أو تفقد ذاكرتها. والأدب – كسائر أنماط الإبداع- مثل نبات حيّ يحتاج إلى عناية بجذوره كحاجته إلى بيئة ترعاه وتهتمّ به حتى ينمو ويمتدّ ويثمر.
ولئن كان تكريم من غربت شمس حياته وانقضت أيامه في هذه الدّنيا من المبدعين سنّة حميدة تدلّ على الوفاء والاعتراف بالجميل والاعتزاز بما قدّموه من فنّ وأدب يكوّن إرثنا الثّقافي وذاكرتنا الأدبيّة – فإنّ تكريم الأحياء منهم أمرٌ ينبغي الالتفات إليه والاهتمام به حتى يكون مناسبة فصليّة أو سنويّة في مهرجانات ثابتة أو مواسم معروفة، لا مناسبات طارئة أو أحداث عابرة لاحتفاليّات سرعان ما تنسى لعدم تكرارها أو تجديدها.
إنّ تكريم المبدع في حياته يدلّ على العناية به والاعتزاز والاحتفاء بما يقدّمه، وهذا من شأنه أن يشعره بالأهميّة، ويقوّي إحساسه بالانتماء، فيشعر أنه ليس فرداً مهملاً ولا مغنّياً خارج سربه، ولا غريباً في وطنه، ومن ثمّ يجد دافعاً على مواصلة العطاء، وعوناً على الاستمرار في مسيرة الإبداع التي لا تخلو من مسؤوليّات وأعباء.
إنّ كثيراً من أدبائنا و مبدعينا يشعر بالإحباط لإحساسه بالإهمال، وكثير منهم يقاسي ظروفاً مادّية صعبة ونفسيّة أصعب، فهل ننتظر حتى يرحل عنّا أدباؤنا لنكرّمهم ونحتفي بإنتاجهم؟؟ وعندئذِ سيكون صدى صوتهم هاتفاً "فات الأوان!!" كما وضّح ذلك الشاعر عبد الحميد بطاو الذي أفصح بكلّ صراحة ووضوح عمّا  ينتاب المبدع من إحساس مريربالألم لما يقابل به من إهمال وجحود في حياته، ولن ينفعه -إذا ما مات كمداً وقهراً- احتفال الناس به  بعد ذلك واهتمامهم بمظاهر عبقريته التي أزهرت في الزّمان الجديب! يقول الشاعر:
أي حبّ إذا أنت لم تعطني في حياتي مساحة قلبك
كي أتدفّأ فيها وتغمرني بالحنان
أي حبّ إذا أنت خبّأت لي في حياتي الفواجع فوق دروبي
وخوّفتني حين كنت أنيسي بغدر الزّمان
أطفأت عاصفات الجحود التّوهّج في نار إبداعنا
واختفى في خضمّ التّوجّس إحساسنا بالأمان
عادة لم تزل تستبدّ بنا
أنّنا حينما نتدارك أخطاءنا
يخرج الميّت من لحده
ويخطّ على شاهد القبر "فات الأوان!"
1.     3. 2009

عبارات مشاكسة


عبارات مشاكسة
ترجمة د. منى علي الساحلي (بتصرّف)

·        لا تتجادل مع أحمق، سينحطّ بك إلى مستواه، وعندها سيتغلّب عليك بخبرته في ذلك المستوى!
·        آخر شيء أريد أن أفعله هو أن أؤذيك. لكن ذلك في قائمتى على أيّة حال.
·        الضوء أسرع من الصّوت. هذا يفسّر لماذا يبدو بعض النّاس أذكياء إلى أن تسمعهم يتكلّمون.
·        إذا أنا اتّفقت معك، فقط سنكون مخطئين معاً.
·        نحن لا ننضج أبداً. نحن فقط نتعلّم كيف نتصرّف أمام النّاس!
·        المعرفة هي أن تعلم أن الطماطم من الفاكهة. الحكمة هي ألا تضعه في سلطة الفواكه!
·        أخبار المساء هي حيثما يبدأون بعبارة "مساء الخير"، لكنهم يواصلونها ليخبروك لماذا هو ليس كذلك!
·        أن تسرق أفكاراً من شخص واحد، فهو (غشّ)، أمّا أن تسرق من أشخاص عدّة فهو (بحث)!
·        خلف كلّ رجل عظيم امرأة. خلف سقوط الرّجل العظيم عادةً ماتكون امرأة أخرى!
·        الضّمير السّليم علامة لعدم سلامة الذاكرة!
·        أنا دعوت الله ليعطيني درّاجة، ولكن علمت أنّ الدّعاء لا يكون بهذا الشّكل، فسرقت درّاجة، ودعوت الله أن يسامحني!
·        النّقود لا تشتري السّعادة، لكنّها قطعاً يمكنها أن تجعل البؤس أقل.
·        اعتدت أن أكون متردّداً، لست متأكّداً من ذلك الآن!
·        لست كبيراً أبداً لتتعلم شيئاً غبيّاً جدّاً!
·        لتتأكّد من إصابة الهدف، اضرب أيّ شيء، ثمّ سمِّ ماأصبته هدفاً!
·        الذّهاب إلى دار الكتب لا يجعل منك كاتباً، مثلما وقوفك في دار السيّارات لا يجعل منك سائقاً!
·        الدّبلوماسي هو الشّخص الذي يخبرك أن تذهب إلى الجحيم بطريقة تجعلك تتوق لتلك الرّحلة!
·        الكرم هو أن تجعل ضيوفك يشعرون كأنّهم في بيوتهم، في الوقت الذي تتمنّى أن يكونوا كذلك!

المرأة الكاتبة والتّحدّيات الرّاهنة


المرأة الكاتبة والتّحدّيات الرّاهنة
د. منى علي السّاحلي

الكتابة نشاطٌ ذو مفعول مزدوج، فهو تحقيقٌ للذّات، وتواصلٌ مع الآخر. إنّه خرقٌ لجدار الصّمت، هو حضور وممارسة للوجود، ودليل عليه. هو فعلٌ للحياة في مقابل الصّمت/ الغياب/ العدم/ الموت!
ومن ثمّ، فإنّ أخطر ما قد يهدّدُ الإنسانَ الكاتبَ رجلاً كان أو امرأة هو الصّمت! غير أنّ خطر الصّمت (أي التّوقّف عن الكتابة أو النّشر) هو بالمرأة أفتكُ وأكثرُ ظهوراً، وأشدُّ تحدّياً. ففي مجتمعٍ ذكوري – مثل مجتمعنا – تعاني المرأةُ إقصاءً وظلماً وتغييباً قسريّاً مما يُفرض عليها من الخارج من عراقيل عديدة، تتمثّل في ما يحيط بها من ظروف أسريّة، أو ما يخصّ المجتمع ونظام الدّولة. ومنها ماتضعه المرأةُ بنفسها في طريقها من عراقيلَ نفسيّةٍ أو ثقافيّةٍ، تحول دون انطلاقها في التّعبير عن فكرها وقضاياها. ومن ثمّ، يمكنُ الحديثُ عن تلك التّحدّياتِ التي تواجهها المرأةُ الكاتبةُ في إطارين:
الأوّل (التّحدّيات الخارجيّة): التي تشمل تضييقَ مساحة الحرّيّةِ التي تنالُها المرأة، وهو ما يحدّد مقدارَ مشاركتها في الحركة الثّقافيّة والنّهضة الفكريّة للبلاد. لا يخفى علينا معاناةُ الإنسان عموماً في ليبيا إبّان عهدٍ متسلّط يرسّخ لحكم الفرد المطلق، ويدور فكره في نطاقِ أدلجة كلّ الإنتاج الفكري والثّقافي والسّياسي والاجتماعي بالولاء له، وبالتّالي فأوّلُ تحدّياتِ الكتابة تكمن في المزالقِ التي تتناسبُ عكساً مع الحرّيّة - بوصفها قيمةً إنسانيّة إيجابيّة – هذه المزالق من قبيل: التّملّق، والنّفاق، والتّقليد، والتّكريس لثقافة التّجبر والطغيان والقمع..وغيرها من فخاخ التّدجين والاستعباد. هنا – بطبيعة الحال – يتحوّل الصّمت من خطرٍ يتهدّد الكاتبةَ إلى فضيلة تصون شرفَ الكتابة، وتحفظ قيمَها من السّقوط والابتذال والامتهان!
تأتي التّحدّيات الأخرى الخارجيّة لتجسّد العلاقةَ المأزومةَ بين الكتابة والسّلطة؛ لتتحوّلَ إلى صراعٍ غيرِ بنّاءٍ لايؤدّي إلا إلى الإحباط والإحساس بالاضطهاد والكبت، من ممارسات قهريّة مثل: الرّقابة، رفض النّشر، التّهديد، العقاب. وكثيرة هي التّجارب التي مرّت بها المرأةُ الكاتبة في بلادنا من التخوّف من النّشر، أو مماطلته أومنعه، أو التّعرّض لمقَصّ الرّقيب..وغيرها من الممارسات القمعيّة التّعسّفية التي تجعل الكتابة الحرّة مغامرةً محفوفةً بالمخاطر. ويدخل ضمنَ التّحدّياتِ الخارجيّة أيضاً ما يمثّله السّائدُ والشّائعُ والمتعارفُ عليه من مفاهيمَ أو عاداتٍ وتقاليدَ وأعرافٍ من سلطةٍ تجعلُها مناطقَ حمراءَ لا يجوز مسُّها أو الاقترابُ منها،  ومن ثمّ تتحوّل الكتابة إلى ممالأة أو التفاف على الموضوع، وتلاعب بالكلمات، ومراوغة يسهل التّخلّص من تبعاتها، بدلاً من تسمية الأشياء بأسمائها، ومناقشتها بجرأةٍ وموضوعيّة. ولا نقصد هنا أن على الكاتبة أن تخترقَ قانونَ الأخلاق، أو أن تكسرَ حدودَ الأدب والمبادئ الدّينية الإنسانيّة. فالحرّية لا تعني الانفلات من الأخلاق والقيم، كذلك لا تعتدي على حريّة الآخرين.
الإطار الثّاني (التّحدّيات الدّاخليّة): أوّلُها قد يكون مسبّباً عن التّحدّيات الخارجيّة حيث يصيبُ القمعُ والكبت ُالمرأةَ الكاتبةَ بالإحباط واليأس، والإحساس بالعبث واللاجدوى؛ فتنكفئ على داخلها، وتتوقف عن الكتابة، أو تمتنع عن النّشر، أو – في أحسن الأحوال – تلجأ إلى النّشر باسم مستعار حمايةً لنفسها، أو خوفاً من تحمّل مسؤوليّة ما تكتبه.
ثانيها: وهو تحدٍّ ثقافيٌّ فنّيٌّ يتجلّى في ما قد تجدُه الكاتبةُ من قصورٍ ذاتيٍّ، وهو نقص في التّحصيل، وعدم اكتمالِ أدواتِ الكتابة، مما يجعلُ الكتابة بالنّسبة للمرأة الكاتبةِ مشروعاً غيرَ مكتملٍ، أو غيرَ فعّال حين يداهمها شعورٌ بالعجز. فالكتابةُ فعلٌ يقوى بالاستمرار والممارسة، وترفدُه الثّقافةُ ودوام الاطلاع.
وهي أمور بدهيّة تعرفها الأمم المختلفة، وتعالج بالدّورات التدريبية، وبرامجِ التّنمية البشريّة، والنّدواتِ والمحاضراتِ الثّقافية، وورشِ العمل يشرفُ عليها خبراءُ متخصّصون في مجالات الفكر المختلفة. وهذه الأعمال تحتاج عادةً إلى مؤسّسات ومنظّمات محلّيّة وعالميّة تشجّعها الدّولة، وتدعمُها مع الجمعيّات والنّوادي الثّقافية الأهلية، بالإضافة إلى أهمّيّة الجوانب التّشجيعيّة، والحوافز الماديّة والمعنويّة في التّغلّب على مثل هذه العقبات، ومواجهة هذه التّحدّيات. لكنّ كلّ تلك الجهود كانت غائبة ، وشبه معدومة، فلا من تشجيع على الإبداع الحرّ، ولا من حوافز أو برامج تنمية وتطوير، بل كانت تتمّ بمجهود شخصي - لكنه محدود - تقوم فيه الكاتبة بنفسها بالبحث عن الوسائل التي يمكنها أن تطوّر نفسها، وبالتّالي تستطيع أن تقدّم شيئاً مميّزاً ومؤثّراً في المشهد الثّقافي الليبي. إن فجراً جديداً يبزغ في سمائنا يبشّر بعهدٍ من الحرّية والدّيمقرطيّة والإبداع. فالكتابة أوّلاً وقبل كل شيء فعلٌ ديمقراطي – بغضّ النظر عن موضوعها – إذ تقرّ بوجود الآخر لأنها تتوجّه إليه لتقيم معه علاقات، سواء أكانت علاقات اتّفاق أو اختلاف..لاضير، المهمّ أنها – أي الكتابة – لا تقوم على القطيعة مع الآخر، أو الإقصاء، أو الحجر، أو المصادرة.
فالكتابة عمليّة ذات صبغة أدبية بالنّظر إلى جماليّاتها، اجتماعية في وظيفتها وتأثيرها الجماعي، سياسية من حيث سعيها للوصول والتفاعل مع الآخر، والتفنّن في استدراجه للاقتناع، أو على الأقل للقراءة. هي أوّلاً وآخراً نتاج للحرّيّة، وحصيلة وترسيخاً لها بوصفها قيمة غائيّة مطلقة، وهو ما نتمنى أن تحقّقَه المرأة الكاتبة في ليبيا الحرّة.

إلى أين تمضي بنا يا سيادة المستشار؟!


إلى أين تمضي بنا يا سيادة المستشار؟!
 د. منى علي الساحلي

تحرّرنا! أجل تحرّرنا ومنّ الله علينا، وعلى بلادنا الحبيبة بالخلاص من الطاغية؛ لنطوي صفحة محزنة ومخزية من الألم والقهر والاستبداد وسلطة الفرد المطلق بكلّ ما تحمل من جور وسفه ونزق وعشوائية؛ لنستهلّ صفحة جديدة من الحرّيّة والعدالة والأمن والاستقرار والنّظام واحترام الآخر. لكنّنا نفاجأ بخطاب التحرير يأتي كأنه وليد لحظته، وإن كان سرّنا منه أريحيّة افتتاحه بشكر الله سجوداً، أو السجود لله شكراً، ومادلّ عليه من ورع وتقوى وتواضع لله نبلاّ وحسن خلق، طالما افتقدناه في مسؤولينا، فما بالك بمن هو في مرتبة الحاكم!
أقول، لقد سررنا واستبشرنا بهذا الاستهلال الحسن، لكن يشاء الله ألا تكتمل فرحتنا بخاتمته التي جاءت مبتسرة؛ لتذكرنا بعشوائية وانفعالية وصمت عهداً وددنا ألا نذكرها، على الأقلّ  في اليوم الذي يحتفل رسميّاً بالقضاء عليه. فالسّيّد المستشار الذي - على ما يبدو أو هكذا بدا من خطابه – لم يكن مستعدّاً لذاك الخطاب، لذلك لم يجد ما ينهي به كلامه بعد شكر الله وحمده إلّا تبشير الشعب بإلغاء قرارات العهد السابق (عهد القذافي) الخاطئة، وأخذته الحميّة فأراد أن يضرب لذلك مثلاً لتلك القرارات الخاطئة فلم تسعفه القريحة إلا بمثال ضرورة توقيع الزوجة الأولى بموافقتها لزوجها في جلب ضرّة لها! هكذا يختزل سيادة المستشار مصائب الليبيين كلّها، ومعاناتهم طيلة فترة عهد القذافي من آلة قمعه المتجبّرة، وقراراته المهينة الارتجالية المتعسفة في مشكلة واحدة هي حصول الزوج على موافقة زوجته – وهو الشرط الذي وضع في عهد القذافي- لكي يتمكّن من الزواج مرة أخرى؛ ليأتي ويزفّ إلى الرجال هذه البشرى العظيمة بإلغاء ذلك الشّرط (التّعسفي) المتطلب لموافقة الزوجة قبل الزواج عليها!! أيّ خيبة أمل صفعت االعالم – والليبيين معهم – وهم يترقبون أوّل كلمات لمسؤول ليبي بالتحرير الذي فات سيادة المستشار أن يعلنه – عفواً أم عمداّ- في خضمّ انشغاله بمسألة تعدد الزوجات وكيفية تسهيلها لتنجلي هموم الليبيين بزوال العقبة التي تعترضها!
نحن هنا لا نرفض أن يكون التشريع الإسلامي أساساً لقوانيننا، ولا نناقش مسألة تعدد الزوجات وشروطها، فذاك موضوع آخر، لكن الاعتراض على الوقت الذي اختاره المستشار ليزج بهذه القضية، والكيفية التي جاءت بها. أنسي الأستاذ محنة الليبيين لأكثر من أربعين عاماً يذوقون فيها صنوف الذل والفقر والحرمان ابتداء من حقهم في العيش الكريم، إلى حرية الكلمة والتعبير عن الرأي، إلى حقهم في اختيار شكل الدولة ونظام الحكم، والتداول السلمي للسلطة؟! أنسي ما قاساه الليبيون والليبيات في سجون القذافي من ظلم وقهر وحرمان من أبسط حقوقهم في محاكمة عادلة وزيارة أهلهم وغيرها؟ وقد كان هو بنفسه شاهداً على تبعية القضاء للحكومة، وفساد أحواله مما دفعه إلى تسجيل موقف مشرف وكسب ثقة الليبيين بتقديم استقالته من منصبه وزيراً (أميناً) للعدل احتجاجاً على ذلك الظلم والفساد. أنسي السيد المستشار أن في ذلك اليوم التاريخي تتوجه أنظار العالم لرؤية مستقبل ليبيا من خلال خطابه لليبيين المنتظرين بشرى بوطن يعم فيه العدل والإخاء والمساواة، وتسوده الحرية والاحترام ويشيع فيه الأمن والرّخاء؛ ليأتي عوضاً عنها ببشرى تسهيل زواج الرجال على زوجاتهم بإلغاء القانون القاضي باشتراط موافقة الزوجة؟! ثمّ يأتي السّؤال الأهمّ أيملك سيادة المستشار – وهو رجل  قانون- أن يلغي قانوناً، أو يسنّ قانوناً بهذه السّرعة (بجرة قلم!)، وبتلك الطريقة الانفعالية الخطابية المرتجلة؟!! أهكذا تسنّ القوانين، وتعدل الأحكام؟؟! أخشى أن أقول ما قاله المثل: "ما أشبه الليلة بالبارحة!" أنعود للأحكام السريعة، والقرارات المرتجلة، والأخطر من ذلك كله: القوانين غير القانونية؟!! لا نريد أن نضخّم الموقف، أو نكون متشائمين، خصوصاً أن السيد المستشار قد انتبه إلى خطئه – أو نُبِّهَ إليه – لكن سؤالاً يفرض نفسه هنا: إلى أين تمضي بنا يا سيادة المستشار؟ وما شكل الدولة التي سنبنيها معاً؟ أهي دولة القانون واحترام الحقوق والحريات؟ أم هي دولة  تقوم على الارتجالية والأحكام السريعة، والخطابات الحماسية البعيدة عن آلام الناس وآمالها؟؟!
8. 11. 2011