الثلاثاء، أبريل 17، 2012

المرأة الكاتبة والتّحدّيات الرّاهنة


المرأة الكاتبة والتّحدّيات الرّاهنة
د. منى علي السّاحلي

الكتابة نشاطٌ ذو مفعول مزدوج، فهو تحقيقٌ للذّات، وتواصلٌ مع الآخر. إنّه خرقٌ لجدار الصّمت، هو حضور وممارسة للوجود، ودليل عليه. هو فعلٌ للحياة في مقابل الصّمت/ الغياب/ العدم/ الموت!
ومن ثمّ، فإنّ أخطر ما قد يهدّدُ الإنسانَ الكاتبَ رجلاً كان أو امرأة هو الصّمت! غير أنّ خطر الصّمت (أي التّوقّف عن الكتابة أو النّشر) هو بالمرأة أفتكُ وأكثرُ ظهوراً، وأشدُّ تحدّياً. ففي مجتمعٍ ذكوري – مثل مجتمعنا – تعاني المرأةُ إقصاءً وظلماً وتغييباً قسريّاً مما يُفرض عليها من الخارج من عراقيل عديدة، تتمثّل في ما يحيط بها من ظروف أسريّة، أو ما يخصّ المجتمع ونظام الدّولة. ومنها ماتضعه المرأةُ بنفسها في طريقها من عراقيلَ نفسيّةٍ أو ثقافيّةٍ، تحول دون انطلاقها في التّعبير عن فكرها وقضاياها. ومن ثمّ، يمكنُ الحديثُ عن تلك التّحدّياتِ التي تواجهها المرأةُ الكاتبةُ في إطارين:
الأوّل (التّحدّيات الخارجيّة): التي تشمل تضييقَ مساحة الحرّيّةِ التي تنالُها المرأة، وهو ما يحدّد مقدارَ مشاركتها في الحركة الثّقافيّة والنّهضة الفكريّة للبلاد. لا يخفى علينا معاناةُ الإنسان عموماً في ليبيا إبّان عهدٍ متسلّط يرسّخ لحكم الفرد المطلق، ويدور فكره في نطاقِ أدلجة كلّ الإنتاج الفكري والثّقافي والسّياسي والاجتماعي بالولاء له، وبالتّالي فأوّلُ تحدّياتِ الكتابة تكمن في المزالقِ التي تتناسبُ عكساً مع الحرّيّة - بوصفها قيمةً إنسانيّة إيجابيّة – هذه المزالق من قبيل: التّملّق، والنّفاق، والتّقليد، والتّكريس لثقافة التّجبر والطغيان والقمع..وغيرها من فخاخ التّدجين والاستعباد. هنا – بطبيعة الحال – يتحوّل الصّمت من خطرٍ يتهدّد الكاتبةَ إلى فضيلة تصون شرفَ الكتابة، وتحفظ قيمَها من السّقوط والابتذال والامتهان!
تأتي التّحدّيات الأخرى الخارجيّة لتجسّد العلاقةَ المأزومةَ بين الكتابة والسّلطة؛ لتتحوّلَ إلى صراعٍ غيرِ بنّاءٍ لايؤدّي إلا إلى الإحباط والإحساس بالاضطهاد والكبت، من ممارسات قهريّة مثل: الرّقابة، رفض النّشر، التّهديد، العقاب. وكثيرة هي التّجارب التي مرّت بها المرأةُ الكاتبة في بلادنا من التخوّف من النّشر، أو مماطلته أومنعه، أو التّعرّض لمقَصّ الرّقيب..وغيرها من الممارسات القمعيّة التّعسّفية التي تجعل الكتابة الحرّة مغامرةً محفوفةً بالمخاطر. ويدخل ضمنَ التّحدّياتِ الخارجيّة أيضاً ما يمثّله السّائدُ والشّائعُ والمتعارفُ عليه من مفاهيمَ أو عاداتٍ وتقاليدَ وأعرافٍ من سلطةٍ تجعلُها مناطقَ حمراءَ لا يجوز مسُّها أو الاقترابُ منها،  ومن ثمّ تتحوّل الكتابة إلى ممالأة أو التفاف على الموضوع، وتلاعب بالكلمات، ومراوغة يسهل التّخلّص من تبعاتها، بدلاً من تسمية الأشياء بأسمائها، ومناقشتها بجرأةٍ وموضوعيّة. ولا نقصد هنا أن على الكاتبة أن تخترقَ قانونَ الأخلاق، أو أن تكسرَ حدودَ الأدب والمبادئ الدّينية الإنسانيّة. فالحرّية لا تعني الانفلات من الأخلاق والقيم، كذلك لا تعتدي على حريّة الآخرين.
الإطار الثّاني (التّحدّيات الدّاخليّة): أوّلُها قد يكون مسبّباً عن التّحدّيات الخارجيّة حيث يصيبُ القمعُ والكبت ُالمرأةَ الكاتبةَ بالإحباط واليأس، والإحساس بالعبث واللاجدوى؛ فتنكفئ على داخلها، وتتوقف عن الكتابة، أو تمتنع عن النّشر، أو – في أحسن الأحوال – تلجأ إلى النّشر باسم مستعار حمايةً لنفسها، أو خوفاً من تحمّل مسؤوليّة ما تكتبه.
ثانيها: وهو تحدٍّ ثقافيٌّ فنّيٌّ يتجلّى في ما قد تجدُه الكاتبةُ من قصورٍ ذاتيٍّ، وهو نقص في التّحصيل، وعدم اكتمالِ أدواتِ الكتابة، مما يجعلُ الكتابة بالنّسبة للمرأة الكاتبةِ مشروعاً غيرَ مكتملٍ، أو غيرَ فعّال حين يداهمها شعورٌ بالعجز. فالكتابةُ فعلٌ يقوى بالاستمرار والممارسة، وترفدُه الثّقافةُ ودوام الاطلاع.
وهي أمور بدهيّة تعرفها الأمم المختلفة، وتعالج بالدّورات التدريبية، وبرامجِ التّنمية البشريّة، والنّدواتِ والمحاضراتِ الثّقافية، وورشِ العمل يشرفُ عليها خبراءُ متخصّصون في مجالات الفكر المختلفة. وهذه الأعمال تحتاج عادةً إلى مؤسّسات ومنظّمات محلّيّة وعالميّة تشجّعها الدّولة، وتدعمُها مع الجمعيّات والنّوادي الثّقافية الأهلية، بالإضافة إلى أهمّيّة الجوانب التّشجيعيّة، والحوافز الماديّة والمعنويّة في التّغلّب على مثل هذه العقبات، ومواجهة هذه التّحدّيات. لكنّ كلّ تلك الجهود كانت غائبة ، وشبه معدومة، فلا من تشجيع على الإبداع الحرّ، ولا من حوافز أو برامج تنمية وتطوير، بل كانت تتمّ بمجهود شخصي - لكنه محدود - تقوم فيه الكاتبة بنفسها بالبحث عن الوسائل التي يمكنها أن تطوّر نفسها، وبالتّالي تستطيع أن تقدّم شيئاً مميّزاً ومؤثّراً في المشهد الثّقافي الليبي. إن فجراً جديداً يبزغ في سمائنا يبشّر بعهدٍ من الحرّية والدّيمقرطيّة والإبداع. فالكتابة أوّلاً وقبل كل شيء فعلٌ ديمقراطي – بغضّ النظر عن موضوعها – إذ تقرّ بوجود الآخر لأنها تتوجّه إليه لتقيم معه علاقات، سواء أكانت علاقات اتّفاق أو اختلاف..لاضير، المهمّ أنها – أي الكتابة – لا تقوم على القطيعة مع الآخر، أو الإقصاء، أو الحجر، أو المصادرة.
فالكتابة عمليّة ذات صبغة أدبية بالنّظر إلى جماليّاتها، اجتماعية في وظيفتها وتأثيرها الجماعي، سياسية من حيث سعيها للوصول والتفاعل مع الآخر، والتفنّن في استدراجه للاقتناع، أو على الأقل للقراءة. هي أوّلاً وآخراً نتاج للحرّيّة، وحصيلة وترسيخاً لها بوصفها قيمة غائيّة مطلقة، وهو ما نتمنى أن تحقّقَه المرأة الكاتبة في ليبيا الحرّة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق