احتفاليّة
د. منى علي السّاحلي
لقد حضرت في الأيام القليلة الماضية احتفالية بمناسبة مرور مائة عام على ولادة الشّاعر الليبي إبراهيم الأسطى عمرأقامتها مشكورة دار الكتب الوطنيّة (مكتبة الصّادق النّيهوم). في الواقع إن الذكرى المئوية لولادة هذا الشاعر كانت العام الماضي 2008 لأنه ولد عام 1908، لكن في عنوان الاحتفال ورد التاريخ هكذا (1908-2008) متجاهلاً أنها أقيمت في عام 2009 ، وهذا يعني أحد تفسيرين: إمّا أن تكون فكرة هذه الاحتفاليّة قد ظهرت العام الماضي (2008)، ولم يتسنّ تطبيقها - بسبب عادتنا في التسويف- في العام نفسه حتى يصدق وصفها ب(المئوية)، وإمّا أننا مازلنا نعيش في العام (الماضي) ولا نعترف بالعام 2009 حتى يثبت نفسه بانقضائه! وعند ذلك (س)نحاول استدراك الأحداث التي حملها معه ، ونحيي ما فاتنا من ذكريات!
أيّاً ما كان الأمر ففي نهايته أننا احتفلنا وهذا ما يهمّنا، وقد ازدان الحفل بتشريف حضور كريم من أرجاء مختلفة من ليبيا؛ احتفاء بالأديب الرّاحل. إن الاحتفاء بالمبدعين والفنانين والأدباء الراحلين لدليل على حياة الأمّة، فلا خير في أمّة تنكر تاريخها، أو تبرأ من أبنائها، أو تفقد ذاكرتها. والأدب – كسائر أنماط الإبداع- مثل نبات حيّ يحتاج إلى عناية بجذوره كحاجته إلى بيئة ترعاه وتهتمّ به حتى ينمو ويمتدّ ويثمر.
ولئن كان تكريم من غربت شمس حياته وانقضت أيامه في هذه الدّنيا من المبدعين سنّة حميدة تدلّ على الوفاء والاعتراف بالجميل والاعتزاز بما قدّموه من فنّ وأدب يكوّن إرثنا الثّقافي وذاكرتنا الأدبيّة – فإنّ تكريم الأحياء منهم أمرٌ ينبغي الالتفات إليه والاهتمام به حتى يكون مناسبة فصليّة أو سنويّة في مهرجانات ثابتة أو مواسم معروفة، لا مناسبات طارئة أو أحداث عابرة لاحتفاليّات سرعان ما تنسى لعدم تكرارها أو تجديدها.
إنّ تكريم المبدع في حياته يدلّ على العناية به والاعتزاز والاحتفاء بما يقدّمه، وهذا من شأنه أن يشعره بالأهميّة، ويقوّي إحساسه بالانتماء، فيشعر أنه ليس فرداً مهملاً ولا مغنّياً خارج سربه، ولا غريباً في وطنه، ومن ثمّ يجد دافعاً على مواصلة العطاء، وعوناً على الاستمرار في مسيرة الإبداع التي لا تخلو من مسؤوليّات وأعباء.
إنّ كثيراً من أدبائنا و مبدعينا يشعر بالإحباط لإحساسه بالإهمال، وكثير منهم يقاسي ظروفاً مادّية صعبة ونفسيّة أصعب، فهل ننتظر حتى يرحل عنّا أدباؤنا لنكرّمهم ونحتفي بإنتاجهم؟؟ وعندئذِ سيكون صدى صوتهم هاتفاً "فات الأوان!!" كما وضّح ذلك الشاعر عبد الحميد بطاو الذي أفصح بكلّ صراحة ووضوح عمّا ينتاب المبدع من إحساس مريربالألم لما يقابل به من إهمال وجحود في حياته، ولن ينفعه -إذا ما مات كمداً وقهراً- احتفال الناس به بعد ذلك واهتمامهم بمظاهر عبقريته التي أزهرت في الزّمان الجديب! يقول الشاعر:
أي حبّ إذا أنت لم تعطني في حياتي مساحة قلبك
كي أتدفّأ فيها وتغمرني بالحنان
أي حبّ إذا أنت خبّأت لي في حياتي الفواجع فوق دروبي
وخوّفتني حين كنت أنيسي بغدر الزّمان
أطفأت عاصفات الجحود التّوهّج في نار إبداعنا
واختفى في خضمّ التّوجّس إحساسنا بالأمان
عادة لم تزل تستبدّ بنا
أنّنا حينما نتدارك أخطاءنا
يخرج الميّت من لحده
ويخطّ على شاهد القبر "فات الأوان!"
1. 3. 2009