من آفات الأخلاق، وعلامات الفساد في البلاد أن تتحوّل مناصب الدّولة ووظائفها وأعمالها إلى مجرّد كراسي يتشرّف بها من يجلس عليها، ناسياً أو متناسياً أنّها مؤقّتة، ولولا ذلك ما وكّلت إليه، ولا عيّن لها. وقد بيّن التاريخ – في كلّ حقبه وعصوره – أنّ صلاح أحوال الناس، أو فسادهم، وحظّهم من التّقدّم أو التأخر، ونصيبهم من الاستقرار والرّخاء، إنّما يظهر في مقدار وعيهم وفهمهم لحقيقة المناصب، وممارساتهم لصلاحياتهم ومسؤولياتهم. ففي تاريخ الشعوب والأمم أكبر الدروس والشّواهد على الصّلة الوثيقة بين نظرة النّاس للمنصب، وطريقة مزاولتهم لمسؤولياته، وبين حالهم ونصيبهم من الحضارة والاستقرار والتّقدّم. فمتى قام المسؤولون بأداء واجباتهم التي تمليها عليهم وظائفهم خير قيام؛ متحرّين الإتقان وإخلاص النيّة، فإنّ الأمة ترتقي مكانة عالية، وتحقق مجداً وذكراً، أمّا عندما تصبح الوظائف فرصاً سانحة للسّلب والنّهب واكتساب الأموال والنّفوذ والامتيازات، وتصير المناصب سبيلاً لاكتساب المكانة المميّزة، وسبباً للغرور والتّفاخر والخيلاء، فذلك دليل على فساد الذّمم، وضياع الحقّ، وغياب العدل والقانون الإنساني والرّباني، ومن ثمّ يصبح ذلك علامة من علامات فساد الدولة، ومؤشراً من مؤشرات سقوطها. ويمكننا أن نضرب لذلك مثلاً في عصور التّاريخ العربي الإسلامي الزّاهرة، حيث كان الفضلاء والنّزهاء يحتمون من المناصب احتماءهم من الدّاء العياء؛ خشية من التفريط، وبعداً من مظنّة الظّلم والتقصير في أداء حقّ ذلك المنصب، أو تلك الوظيفة؛ ذاكرين قوله صلّى الله عليه وسلّم: "إنّها أمانة، وإنّها يوم القيامة خزيٌ وندامة إلا من أخذها بحقّها وأدّى الذي عليه." وما سيرة الخليفة الرّاشد عمر بن الخطّاب – الذي لم يكن استثناءً في صدقه وخلقه – بخافية على أحد، وقد قال فيه الشاعر مبيّناً نزاهته وزهده في تولّي المناصب:
ولي الأمـرَ نـزيـهـاً عـن نـزيه وهـو لا يـبغـيـه، بـل يـزهـدُ فـيـه
ثـمّ ولّى لـم يـورّثـْهـا بـنــيـه إنّما الحــكم عـنـاءٌ وسـهــَـرْ
لا مــتـاعٌ وغـــنـىً لـلحـاكــمــيـنْ !
ولا يخفى علينا - كذلك - كيف صارت المناصب في بلادنا العزيزة عنواناً للفخر، ومضماراً للتسابق والتنافس، ليس خدمة للبلاد وأهلها، ولا انتفاعاً من خبرة أو معرفة أو كفاءة، إنما كانت هذه الرغبة في المناصب، والإقبال عليها، والصّراع من أجلها للكسب الشخصي مادّيّاً ومعنويّاً؛ فصارت سلّماً للثروة دون وجه حقّ، وللتّجبّر والتّكبّر على المواطنين بالباطل، وغدا الفساد مدعاةً للفضل والسّيادة، بدلاً من أن يكون موجباً للقِصاص والعقاب!
كل ذلك، وإن امتدّ طويلا حتى كاد يصير أمراً مألوفاً للناس، فإنّه ما كان له أن يدوم ، ولا أن يبقى حكمه وحكم طغاته، فهي سنة الله في خلقه يمدّ للظّالمين؛ ليقيم عليهم الحجّة ، ثمّ يأتي بنيانهم من القواعد فيدكّها بهم. إنّ كثرة الباطل وانتشاره لا تكسبه شرعيّة ولا قوّة، بل هو اختبار للشرفاء من الصّادقين في إخلاصهم وولائهم للحق والوطن؛ ليرفضوا الظّلم والظالمين، ويقيموا دولة العدل والقانون المظفّرة بإذنه تعالى. علينا - من ذلك كلّه - أن نعي الدّرس، ونستفيد من عثرات القوم فلا نكرّرها، ولنتأهّب لخدمة بلادنا وأهلها، ولنصرة الحقّ، ولرفع المظالم، دون أن نبحث عن المسمّيات الوظيفيّة، ولا المناصب الإداريّة، أو أن نجعلها هدفاً في حدّ ذاتها، بل هدفها –أوّلاً وآخراً – خدمة الوطن والمواطن بكلّ أمانة وإتقان، ونزاهة وإخلاص، وهذا هدفنا جميعاً أيّاً ما كانت صفاتنا، ووظائفنا، وألقابنا! والله الموفق والمستعان.
أبريل/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق